كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ (205)}.
تجعل: {ما} في موضع نصب وتوقع عليها: {يُنْفِقُونَ} ولا تنصبها ب: {يسألونك} لأنّ المعنى: يسألونك أىّ شيء ينفقون. وإن شئت رفعتها من وجهين أحدهما أن تجعل: {ذا} اسما يرفع ما، كأنك قلت: ما الذي ينفقون.
والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي فيقولون: ومن ذا يقول ذاك؟
في معنى: من الذي يقول ذاك؟ وأنشدوا:
عدس ما لعبّاد عليك إمارة ** أمنت وهذا تحملين طليق

كأنه قال: والذي تحملين طليق. والرفع الآخر أن تجعل كلّ استفهام أوقعت عليه فعلا بعده رفعا لأنّ الفعل لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام، فجعلوه بمنزلة الذي إذ لم يعمل فيه الفعل الذي يكون بعدها. ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت أخوك، فيكون الذي في موضع رفع بالأخ، ولا يقع الفعل الذي يليها عليها.
فإذا نويت ذلك رفعت قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} كَذلِكَ كما قال الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ** أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

رفع النحب لأنه نوى أن يجعل: {ما} في موضع رفع. ولو قال: أنحبا فيقضى أم ضلالا وباطلا كان أبين في كلام العرب. وأكثر العرب تقول: وأيّهم لم أضرب وأيّهم إلّا قد ضربت رفعا للعلّة من الاستئناف من حروف الاستفهام وألّا يسبقها شيء.
ومما يشبه الاستفهام مما يرفع إذا تأخّر عنه الفعل الذي يقع عليه قولهم: كلّ الناس ضربت. وذلك أن في كلّ مثل معنى هل أحد إلّا ضربت، ومثل معنى أىّ رجل لم أضرب، وأىّ بلدة لم أدخل ألا ترى أنك إذا قلت: كلّ الناس ضربت كان فيها معنى: ما منهم أحد إلا قد ضربت، ومعنى أيهم لم أضرب. وأنشدنى أبو ثروان:
وقالوا تعرّفها المنازل من منّى ** وما كلّ من يغشى منّى أنا عارف

رفعا، ولم أسمع أحدا نصب كل. قال: وأنشدونا:
وما كلّ من يظّنّنى أنا معتب ** وما كلّ ما يروى علىّ أقول

ولا تتوهّم أنهم رفعوه بالفعل الذي سبق إليه لأنهم قد أنشدونا:
قد علقت أمّ الخيار تدّعى ** علىّ ذنبا كلّه لم أصنع

رفعا. وأنشدنى أبو الجرّاح:
أرجزا تريد أم قريضا ** أم هكذا بينهما تعريضا

كلاهما أجد مستريضا فرفع كلّا وبعدها أجد لأن المعنى: ما منهما واحد إلا أجده هيّنا مستريضا.
ويدلّك على أن فيه ضمير جحد قول الشاعر:
فكلهم حاشاك إلا وجدته ** كعين الكذوب جهدها واحتفالها

وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (217)}.
وهى في قراءة عبد اللّه: {عن قتال فيه} فخفضته على نيّة عن مضمرة.
{قُلْ قِتال فِيهِ كَبِير وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ففى الصدّ وجهان: إن شئت جعلته مردودا على الكبير، تريد: قل القتال فيه كبير وصدّ عن سبيل اللّه وكفر به.
وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا تريد: قل القتال فيه كبير وكبير الصدّ عن سبيل اللّه والكفر به.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} مخفوض بقوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد.
فقال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أهل المسجد مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} من القتال في الشهر الحرام. ثم فسّر فقال تبارك وتعالى: {وَالْفِتْنَةُ} يريد الشرك- أشدّ من القتال فيه.
وقوله: {قُلِ الْعَفْوَ (219)}.
وجه الكلام فيه النصب، يريد: قل ينفقون العفو. وهو فضل المال قد نسخته الزكاة تقول: قد عفا.
وقوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى (220)}.
يقال للغلام يتم ييتم يتما ويتما. قال: وحكى لى يتم ييتم.
{وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} ترفع الإخوان على الضمير فهم كأنك قلت فهم إخوانكم ولو نصبته كان صوابا يريد: فإخوانكم تخالطون، ومثله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ} ولو نصبت هاهنا على إضمار فعل ادعوهم إخوانكم ومواليكم. وفى قراءة عبد اللّه: {إن تعذّبهم فعبادك} وفى قراءتنا: {فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ}.
وإنما يرفع من ذا ما كان اسما يحسن فيه: {هو} مع المرفوع. فإذا لم يحسن فيه هو أجريته على ما قبله فقلت: إن اشتريت طعاما فجيّدا، أي فاشتر الجيّد، وإن لبست ثيابا فالبياض، تنصب لأن هو لا يحسن هاهنا، والمعنى في هذين هاهنا مخالف للأوّل ألا ترى أنك تجد القوم إخوانا وإن جحدوا، ولا تجد كلّ ما يلبس بياضا، ولا كلّ ما يشترى جيّدا. فإن نويت أن ما ولى شراءه فجيّد رفعت إذا كان الرجل قد عرف بجودة الشراء وبلبوس البياض.
وكذلك قول اللّه: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا} نصب لأنه شيء ليس بدائم، ولا يصلح فيه هو ألا ترى أن المعنى: إن خفتم أن تصلّوا قياما فصلّوا رجالا أو ركبانا رجالا يعنى: رجّالة فنصبا لأنهما حالان للفعل لا يصلحان خبرا.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} المعنى في مثله من الكلام: اللّه يعلم أيّهم يفسد وأيّهم يصلح. فلو وضعت أيّا أو من مكان الأوّل رفعته، فقلت: أنا أعلم أيّهم قام من القاعة، قال الفرّاء سمعت العرب تقول: ما يعرف أىّ من أىّ. وذلك أن أىّ ومن استفهامان، والمفسد خبر. ومثله ما أبالى قيامك أو قعودك، ولو جعلت في الكلام استفهاما بطل الفعل عنه فقلت: ما أبالى أقائم أنت أم قاعد. ولو ألقيت الاستفهام اتّصل الفعل بما قبله فانتصب.
والاستفهام كله منقطع مما قبله لخلقة الابتداء به.
وقوله: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ (220)}.
يقال: قد عنت الرجل عنتا، وأعنته اللّه إعناتا.
وقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ (221)}.
يريد: لا تزوّجوا. والقرّاء على هذا. ولو كانت: ولا تنكحوا المشركات أي لا تروّجوهن المسلمين كان صوابا. ويقال: نكحها نكحا ونكاحا.
وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (221)}.
كقوله: وإن أعجبتكم. ولو وإن متقاربان في المعنى. ولذلك جاز أن يجازى لو بجواب إن، وإن بجواب لو في قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}. وقوله: {فَرَأَوْهُ} يعنى بالهاء الزّرع.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ (222)}.
بالياء. وهى في قراءة عبد اللّه إن شاء اللّه: {يتطهرن} بالتاء، والقرّاء بعد يقرءون: {حتى يطهرن} {ويطّهّرن} {يطهرن} ينقطع عنهن الدم، و{يتطهرن} يغتسلن بالماء. وهو أحبّ الوجهين إلينا: يطّهّرن.
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ولم يقل: في حيث، وهو الفرج. وإنما قال: من حيث كما تقول للرجل: ايت زيدا من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه.
فلو ظهر الفرج ولم يكن عنه قلت في الكلام: ايت المرأة في فرجها.
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يقال: ايت الفرج من حيث شئت.
أي كيف شئتم. حدّثنا محمد بن الجهم، قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى شيخ عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عباس: إن اليهود تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من ورائها في قبلها خرج الولد أحول. قال فقال ابن عباس: كذبت يهود {نِساؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: ايت الفرج من حيث شئت.
وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا (224)}.
يقول: لا تجعلوا الحلف باللّه مانعا معترضا {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} يقول: لا يمتنعنّ أحدكم أن يبرّ ليمين إن حلف عليها، ولكن ليكفّر يمينه ويأت الذي هو خير.
وقوله: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ (225)}.
فيه قولان. يقال: هو ممّا جرى في الكلام من قولهم: لا واللّه، وبلى واللّه.
والقول الآخر: الأيمان أربع. فيمينان فيهما الكفّارة والاستغفار، وهو قولك:
واللّه لا أفعل، ثم تفعل، وو اللّه لأفعلنّ ثم لا تفعل. ففى هاتين الكفارة والاستغفار لأن الفعل فيهما مستقبل. واللتان فيهما الاستغفار ولا كفّارة فيهما قولك: واللّه ما فعلت وقد فعلت، وقولك: واللّه لقد فعلت ولم تفعل. فيقال هاتان لغو إذ لم تكن فيهما كفّارة. وكان القول الأوّل- وهو قول عائشة: إن اللغو ما يجرى في الكلام على غير عقد- أشبه بكلام العرب.
وقوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (226)}.
التربّص إلى الأربعة. وعليه القرّاء. ولو قيل في مثله من الكلام: تربّص أربعة أشهر كان صوابا كما قرءوا: {أَوْ إِطْعام فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ} وكما قال: {ألَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا أَحْياءً وَأَمْواتًا} والمعنى تكفتهم أحياء وأمواتا.
ولو قيل في مثله من الكلام: كفات أحياء وأموات كان صوابا. ولو قيل:
تربص: أربعة أشهر كما يقال في الكلام: بينى وبينك سير طويل: شهر أو شهران تجعل السير هو الشهر، والتربّص هو الأربعة. ومثله: {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ} وأربع شهادات. ومثله: {فَجَزاء مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فمن رفع {مثل} فإنه أراد: فجزاؤه مثل ما قتل. قال: وكذلك رأيتها في مصحف عبد اللّه: {فَجَزاؤُهُ} بالهاء، ومن نصب {مثل} أراد: فعليه أن يجزى مثل ما قتل من النعم.
{فَإِنْ فاؤُا} يقال: قد فاءوا يفيئون فيئا وفيوءا. والفيء: أن يرجع إلى أهله فيجامع.
وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ (228)}.
وفي قراءة عبد اللّه: {بردتهن}.
وقوله: {إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ (229)}.
وفي قراءة عبد اللّه: {إلا أن تخافوا} فقرأها حمزة على هذا المعنى: {إِلَّا أَنْ يَخافا} ولا يعجبنى ذلك. وقرأها بعض أهل المدينة كما قرأها حمزة. وهى في قراءة أبيّ: {إلا أن يظنّا ألّا يقيما حدود اللّه} والخوف والظنّ متقاربان في كلام العرب.
من ذلك أن الرجل يقول: قد خرج عبدك بغير إذنك، فتقول أنت: قد ظننت ذاك، وخفت ذاك، والمعنى واحد. وقال الشاعر:
أتانى كلام عن نصيب يقوله ** وما خفت يا سلّام أنك عائبى

وقال الآخر:
إذا مت فادفنّى إلى جنب كرمة ** تروّى عظامى بعد موتى عروقها

ولا تدفننّى في الفلاة فإننى ** أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها

والخوف في هذا الموضع كالظنّ. لذلك رفع: {أذوقها} كما رفعوا: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَة} وقد روى عنه صلى اللّه عليه وسلم: «أمرت بالسواك حتى خفت لأدردنّ» كما تقول: ظنّ ليذهبنّ.
وأما ما قال حمزة فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد اللّه فلم يصبه- واللّه أعلم- لأن الخوف إنما وقع على أن وحدها إذ قال: ألا يخافوا أن لا، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة وعلى أن ألا ترى أن اسمهما في الخوف مرفوع بما لم يسمّ فاعله. فلو أراد ألّا يخافا على هذا، أو يخافا بذا، أو من ذا، فيكون على غير اعتبار قول عبد اللّه كان جائزا كما تقول للرجل: تخاف لأنك خبيث، وبأنك، وعلى أنك.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما}.
يقال كيف قال: فلا جناح عليهما، وإنما الجناح- فيما يذهب إليه الناس- على الزوج لأنه أخذ ما أعطى؟
ففى ذلك وجهان:
أن يراد الزوج دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا في سورة الرحمن: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب. ومنه: {نَسِيا حُوتَهُما} وإنما الناسي صاحب موسى وحده. ومثله في الكلام أن تقول: عندى دابّتان أركبهما وأستقى عليهما، وإنما يركب إحداهما ويستقى على الأخرى وقد يمكن أن يكونا جميعا تركبان ويستقى عليهما. وهذا من سعة العربية التي يحتجّ بسعتها. ومثله من كتاب اللّه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فيستقيم في الكلام أن تقول: قد جعل اللّه لنا ليلا ونهارا نتعيّش فيهما وننام فيهما. وإن شئت ذهبت بالنوم إلى الليل وبالتعيّش إلى النهار.
والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في ألّا يكون عليهما جناح إذ كانت تعطى ما قد نفى عن الزوج فيه الإثم، أشركت فيه لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم احتاجت هي إلى مثل ذلك. ومثله قول اللّه تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وإنما موضع طرح الإثم في المتعجّل، فجعل للمتأخّر- وهو الذي لم يقصّر- مثل ما جعل على المقصّر. ومثله في الكلام قولك: إن تصدّقت سرّا فحسن وإن تصدّقت جهرا فحسن.
وفي قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وجه آخر وذلك أن يريد: لا يقولنّ هذا المتعجل للمتأخر: أنت مقصّر، ولا المتأخّر للمتعجل مثل ذلك، فيكون قوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي فلا يؤثّمنّ أحدهما صاحبه.
وقوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا} يريد: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا، أن في موضع نصب إذا نزعت الصفة، كأنك قلت: فلا جناح عليهما أن يراجعها، قال وكان الكسائىّ يقول: موضعه خفض. قال الفرّاء: ولا أعرف ذلك.
وقوله: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما} أن في موضع نصب لوقوع الظنّ عليها.
وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا (231)} كان الرجل منهم إذا طلّق امرأته فهو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثانية. وكان إذا أراد أن يضرّ بها تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة ثم يراجعها، ويفعل ذلك في التطليقة الثانية. فتطويله لرجعتها هو الضرار بها.
وقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (232)} يقول: فلا تضيّقوا عليهنّ أن يراجعن أزواجهنّ بمهر جديد إذا بانت إحداهنّ من زوجها، وكانت هذه أخت معقل، أرادت أن تزوّج زوجها الأوّل بعد ما انقضت عدّتها فقال معقل لها: وجهى من وجهك حرام إن راجعته، فأنزل اللّه عز وجل: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}.
وقوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ ولم يقل: ذلكم، وكلاهما صواب. وإنما جاز أن يخاطب القوم: {بذلك} لأنه حرف قد كثر في الكلام حتى توهّم بالكاف أنها من الحرف وليست بخطاب. ومن قال: {ذلِكَ} جعل الكاف منصوبة وإن خاطب امرأة أو امرأتين أو نسوة. ومن قال: {ذلكم} أسقط التوهّم، فقال إذا خاطب الواحد: ما فعل ذلك الرجل، وذانك الرجلان، وأولئك الرجال. ويقاس على هذا ما ورد. ولا يجوز أن تقول في سائر الأسماء إذا خاطبت إلا بإخراج المخاطب في الاثنين والجميع والمؤنّث كقولك للمرأة: غلامك فعل ذلك لا يجوز نصب الكاف ولا توحيدها في الغلام لأن الكاف هاهنا لا يتوهّم أنها من الغلام.
ويجوز أن تقول: غلامك فعل ذاك وذاك، على ما فسّرت لك: من الذهاب بالكاف إلى أنها من الاسم.
وقوله: {الرَّضاعَةَ (233)} القرّاء تقرأ بفتح الراء. وزعم الكسائىّ أن من العرب من يقول: الرضاعة بالكسر. فإن كانت فهى بمنزلة الوكالة والوكالة، والدّلالة والدّلالة، ومهرت الشيء مهارة ومهارة والرّضاع والرّضاع فيه مثل ذلك إلا أن فتح الراء أكثر، ومثله الحصاد والحصاد.
وقوله لا تُضَارَّ والِدَة بِوَلَدِها يريد: لا تضارر، وهو في موضع جزم. والكسر فيه جائز: {لا تُضَارَّ والِدَة} ولا يجوز رفع الراء على نيّة الجزم، ولكن يرفعه على الخبر. وأمّا قوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} فقد يجوز أن يكون رفعا على نيّة الجزم لأن الراء الأولى مرفوعة في الأصل، فجاز رفع الثانية عليها، ولم يجز لا تضارّ بالرفع لأن الراء إن كانت تفاعل فهى مفتوحة، وإن كانت تفاعل فهى مكسورة. فليس يأتيها الرفع إلا أن تكون في معنى رفع. وقد قرأ عمر بن الخطّاب: {ولا يضارر كاتب ولا شهيد}.
ومعنى لا تُضَارَّ والِدَة بِوَلَدِها يقول: لا ينزعنّ ولدها منها وهى صحيحة لها لبن فيدفع إلى غيرها.: {وَلا مَوْلُود لَهُ بِوَلَدِهِ} يعنى الزوج. يقول: إذا أرضعت صبيّها وألفها وعرفها فلا تضارنّ الزوج في دفع ولده إليه.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ (234)}.
يقال: كيف صار الخبر عن النساء ولا خبر للأزواج، وكان ينبغى أن يكون الخبر عن الَّذِينَ؟ فذلك جائز إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر أن تترك الأوّل ويكون الخبر عن المضاف إليه. فهذا من ذلك لأن المعنى- واللّه أعلم- إنما أريد به: ومن مات عنها زوجها تربصت. فترك الأوّل بلا خبر، وقصد الثاني لأن فيه الخبر والمعنى. قال: وأنشدنى بعضهم:
بنى أسد إنّ ابن قيس ** وقتله بغير دم دار المذلّة حلّت

فألقى ابن قيس وأخبر عن قتله أنه ذلّ. ومثله:
لعلّى إن مالت بي الرّيح ميلة ** على ابن أبى ذبّان أن يتندّما

فقال: لعلّى ثم قال: أن يتندما لأن المعنى: لعلّ ابن أبى ذبّان أن يتندّم إن مالت بي الريح. ومثله قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ} إلا أن الهاء من قوله وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ رجعت على {الذين} فكان الإعراب فيها أبين لأن العائد من الذّكر قد يكون خبرا كقولك: عبد اللّه ضربته.
وقال: {وَعَشْرًا} ولم يقل: عشرة وذلك أن العرب إذا أبهمت العدد من الليالى والأيام غلّبوا عليه الليالى حتى إنهم ليقولون: قد صمنا عشرا من شهر رمضان- لكثرة تغليبهم الليالى على الأيام. فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والدّكران بالهاء كما قال اللّه تبارك وتعالى: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} فأدخل الهاء في الأيام حين ظهرت، ولم تدخل في الليالى حين ظهرن.
وإن جعلت العدد غير متّصل بالأيام كما يتّصل الخافض بما بعده غلّبت الليالى أيضا على الأيّام. فإن اختلطا فكانت ليالى وأياما غلّبت التأنيث، فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد: أيام فيها برد شديد. وأمّا المختلط فقول الشاعر:
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تضيف وتجارا

فقال: ثلاثا وفيها أيام. وأنت تقول: عندى ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هاهنا ثلاث لأن الليالى من الأيام تغلب الأيام. ومثل ذلك في الكلام أن تقول: عندى عشر من الإبل وإن عنيت أجمالا، وعشر من الغنم والبقر. وكل جمع كان واحدته بالهاء وجمعه بطرح الهاء، مثل البقر واحدته بقرة، فتقول: عندى عشر من البقر وإن نويت ذكرانا. فإذا اختلطا وكان المفسّر من النوعين قبل صاحبه أجريت العدد فقلت: عندى خمس عشرة ناقة وجملا، فأنّثت لأنك بدأت بالناقة فغلّبتها.
وإن بدأت بالجمل قلت: عندى خمسة عشر جملا وناقة. فإن قلت: بين ناقة وجمل فلم تكن مفسّرة غلّبت التأنيث، ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة فقلت: عندى خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندى خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد إلّا بالتذكير لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ منها بالإناث، ولأن الذكر منها موسوم بغير سمة الأنثى، والغنم والبقر يقع على ذكرها وأنثاها شاة وبقرة، فيجوز تأنيث المذكّر لهذه الهاء التي لزمت المذكّر والمؤنّث.
وقوله مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ الخطبة مصدر بمنزلة الخطب، وهو مثل قولك:
إنه لحسن القعدة والجلسة يريد القعود والجلوس، والخطبة مثل الرسالة التي لها أوّل وآخر، قال: سمعت بعض العرب يقول: اللهم ارفع عنا هذه الضغطة، كأنه ذهب إلى أن لها أوّلا وآخرا، ولو أراد مرّة لقال: الضغطة، ولو أراد الفعل لقال الضغطة كما قال المشية. وسمعت آخر يقول: غلبنى فلان على قطعة لى من أرضى يريد أرضا مفروزة مثل القطعة لم تقسم، فإذا أردت أنها قطعة من شيء قطع منه قلت: قطعة.
وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ} للعرب في أكننت الشيء إذا سترته لغتان: كننته وأكننته، قال: وأنشدونى قول الشاعر:
ثلاث من ثلاث قداميات ** من اللاتي تكنّ من الصقيع

وبعضهم يرويه تكنّ من أكننت. وأمّا قوله: {لُؤْلُؤ مَكْنُون} و: {بَيْض مَكْنُون} فكأنه مذهب للشئ يصان، وإحداهما قريبة من الأخرى.
وقوله: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} يقول: لا يصفنّ أحدكم نفسه في عدّتها بالرغبة في النكاح والإكثار منه. حدّثنا محمد بن الجهم قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنى حبّان عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس أنه قال: السرّ في هذا الموضع النكاح. وأنشد عنه بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أننى ** كبرت وألّا يشهد السرّ أمثالى

قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى اللّه عنه قال: {أَوْ جاءَ أَحَد مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (236)}.
بالرفع. ولو نصب كان صوابا على تكرير الفعل على النيّة، أي ليعط الموسع قدره، والمقتر قدره. وهو مثل قول العرب: أخذت صدقاتهم، لكل أربعين شاة شاة ولو نصبت الشاة الآخرة كان صوابا.
وقوله مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ منصوب خارجا من القدر لأنه نكرة والقدر معرفة.
وإن شئت كان خارجا من قوله: {مَتِّعُوهُنَّ} متاعا ومتعة.
فأمّا حَقًّا فإنه نصب من نيّة الخبر لا أنه من نعت المتاع. وهو كقولك في الكلام: عبد اللّه في الدار حقّا. إنما نصب الحق من نيّة كلام المخبر كأنه قال: أخبركم خبرا حقا، وبذلك حقا وقبيح أن تجعله تابعا للمعرفات أو للنكرات لأن الحق والباطل لا يكونان في أنفس الأسماء إنما يأتى بالأخبار. من ذلك أن تقول: لى عليك المال حقّا، وقبيح أن تقول: لى عليك المال الحق، أو:
لى عليك مال حقّ، إلا أن تذهب به إلى أنه حقّ لى عليك، فتخرجه مخرج المال لا على مذهب الخبر.
وكل ما كان في القرآن مما فيه من نكرات الحق أو معرفته أو ما كان في معنى الحق فوجه الكلام فيه النصب مثل قوله: {وَعْدَ الْحَقِّ} و: {وَعْدَ الصِّدْقِ} ومثل قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} هذا على تفسير الأوّل.
وأمّا قوله: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} فالنصب في الحقّ جائز يريد حقّا، أي أخبركم أن ذلك حقّ. وإن شئت خفضت الحقّ، تجعله من صفة اللّه تبارك وتعالى. وإن شئت رفعته فتجعله من صفة الولاية. وكذلك قوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} تجعله من صفة اللّه عز وجلّ. ولو نصبت كان صوابا، ولو رفع على نيّة الاستئناف كان صوابا كما قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وأنت قائل إذا سمعت رجلا يحدث: حقّا أي قلت حقا، والحقّ، أي ذلك الحقّ. وأمّا قوله في ص: {قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} فإن الفرّاء قد رفعت الأوّل ونصبته. وروى عن مجاهد وابن عباس أنهما رفعا الأوّل وقالا تفسيره: الحقّ منى، وأقول الحق فينصبان الثاني ب: {أقول}. ونصبهما جميعا كثير منهم فجعلوا الأوّل على معنى: والحقّ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} وينصب الثاني بوقوع القول عليه. وقوله: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} رفعه حمزة والكسائىّ، وجعلا الحق هو اللّه تبارك وتعالى لأنها في حرف عبد اللّه: {ذلك عيسى ابن مريم قال اللّه} كقولك: كلمة اللّه، فيجعلون قال بمنزلة القول كما قالوا: العاب والعيب.
وقد نصبه قوم يريدون: ذلك عيسى بن مريم قولا حقّا.
وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (237)}.
تماسّوهن وتمسّوهن واحد، وهو الجماع المماسّة والمسّ.
وإنما قال إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ بالنون لأنه فعل النسوة، وفعل النسوة بالنون في كل حال. يقال: هنّ يضربن، ولم يضربن، ولن يضربن لأنك لو أسقطت النون منهن للنصب أو الجزم لم يستبن لهنّ تأنيث. وإنّما قالت العرب: {لن يعفوا} للقوم، و: {لن يعفوا} للرجلين لأنهم زادوا للاثنين في الفعل ألفا ونونا، فإذا أسقطوا نون الاثنين للجزم أو للنصب دلّت الألف على الاثنين. وكذلك واو يفعلون تدلّ على الجمع إذا أسقطت النون جزما أو نصبا.